رواية "سمّيتها فاطمة": مُحاكمة سردية للمجتمع رواية "سمّيتها فاطمة": مُحاكمة سردية للمجتمع

 

عبده تاج

حسب هاليداي من المفيد التفكير في النص الروائي كمُشفَّر في جمل وليس مكونًا منها؛ وذلك لسبب بسيط وهو أن القارئ يستطيع فك الشفرة الموجودة فيه من خلال القراءة. وإذ نقرأ نص "سمّيتها فاطمة" لمياسة النخلاني، الفائزة بجائزة السرد اليمني (حزاوي) في نسختها الأولى 2022م، سنجد الخطاب المجتمعي الذي اختار هدفه ومجال دراسته أو المشاكل المحدَّدة التي أرادت الروائية مناقشتها.

ابتدأت بطرح سؤال شائك: "لماذا أنا بالتحديد؟"، وهو سؤال حاضر في حيوات كثيرة، تلك التي تتسم بمعاناة فريدة ومختلفة، وهي بالفعل الحيوات التي اختارها النص؛ فالرواية أخذت على عاتقها ضرورة الاقتراب من الهموم المجتمعية البسيطة الناتجة عن ظروف ومعاناة.

ما وراء النص السردي

يختار النص الروائي مواضيعه بحساسية شديدة: الفقر، تعليم المرأة، وزواجها، السلطة العائلية. ولتوجّه لكل من هذه المفاهيم مُحاكمة سردية في إطار زمني متسارع نسبيًا توغّلت في الأسرة اليمنية البسيطة لتتناول همومها وإشكالياتها المعيشية والاجتماعية. فالأب "قائد"، مثقل بهموم تقف عائقًا أمام قدرته على تحقيق أحلامه في بناته: تدريسهن، منحهن حياة كريمة.. تبرر الساردة استسلام الأب قائد لظروف الحياة القاسية والمُرهِقة، وذلك في فصول بدت كأنها حياكة منسوجة أشبه بالدوزنة الموسيقية كما يرى ميلان كونديرا في كتابه "فن الرواية".

في العائلة هناك دائمًا سُلطة، ومشاكل المجتمع تبدأ من تفكك روابط الأسرة أو هشاشتها على الأقل. وهكذا نجد أخ قائد يوجه سلطته تجاه أخيه، فترد مخاوف الأخ المظلوم واضحة: "في البداية كانت تنتابه مشاعر القهر والألم أن يتعرض وإخوته لسرقة حقوقهم بهذه الطريقة، وممن؟ من أخيهم الأكبر الذي يفترض أن يعتني بهم بعد وفاة والدهم". يحاول الأخ إجبار أخيه قائد على تزويج إحدى بناته لأحد أبنائه.

ربما نستخلص من هذا اهتمام الساردة بموضوع بدا لها مُهِمًا في الهدف من العمل الروائي، وهو تسليط الضوء على السلوكيات الخاطئة في العائلة. في هذا السياق يؤكد ابن خلدون على أهمية التنشئة الاجتماعية باعتبارها عملية اكتساب المعرفة والأخلاق وانتحال المذاهب والفضائل. وهي عملية تبدأ من الولادة وتستمر في اكتساب طرائق التفكير والعمل والسلوك وخاصة عن طريق اللغة التي تمكن الفرد من التعبير عن المشاعر والأغراض، ودرس تأثيرها على تشكيل البؤرة العامة للمجتمع.

ينتقل قائد إلى مدينة تعز فرارًا من أخيه وخوفًا منه، وليست عملية إيراد هذا الحدث، من قِبلنا، سوى تأكيد على بانورامية النص الروائي التي أرادت التصوير وبحرفية خبيرة لأكثر مشاكل الأسرة اليمنية خصوصية، وبالطبع دون ترك المجال لهذه المشكلة أن تكون فريدة لدرجة ندرتها؛ فسلوك مثل الزواج المبكر لن يكون إلا عبارة عن ظاهرة مجتمعية، لكن يجدر الإشادة بقدرة الساردة على اختراع حكاية توحي بخصوصية تفاصيلها بينما دلالتها تؤخذ تفسيراتها إلى ما بعد النص الروائي أو ما يمكن تسميتها بما وراء النص الروائي.

ولو عدنا إلى النص نفسه فإننا قد نعتب على الساردة عدم إثراء تفاصيل عمل مُحسن إذ هو المسبب لأمراضه، السكر وارتفاع الضغط والقولون العصبي وهو محرّك فعال يصب في متن العملية السردية وحيث لم تذكره إلا بشكل عام، لا خاص وتفصيلي، لكن ربما حافظت على تسليط الضوء على الحياة الداخلية للأسرة وهمومها ولم ترَ في أي تفاصيل أخرى ضرورة سردية، قد يكون بوعي مهاري منها أو نتيجة لغواية السرد.

إنسانية النص الروائي

في الفصل الثالث تستيقظ فاطمة لتجد نفسها أمام حياة مختلفة رغم رخاء العيش فيها. زوج عصبي ومتسلّط، يأمرها بفضاضة بتجهيز الأكل، مما يجعل الراوية أمام امتحان اجتماعي صعب أو عقبة سردية، تجاوزتها بموت الزوج حسن، والذي سيعوض بعدئذ بزواجها من محسن أخيه الذي يحب ابنها خالد ويريده أن يعيش في كنف أب وأم.

خالد نفسه سُلط الضوء عليه في بداية الرواية، في تناص يرى "فاولر" أنه امتداد للنص الروائي أو هو إحدى بنياته. فالتناص مع النص القرآني ربط الحكاية بأهم حكاية وردت في القرآن وهي قصة يوسف، إضافة إلى المونولوج الداخلي الذي ارتبط بهذا التناص لما منح الفصول الأولى للرواية نكهة تشويقية لم تنافسها شاعرية سوى بعض الجمل التي بدا أن الساردة تعرف أهمية الشعر في العملية السردية وتتسم بقدرتها المهارية على المزج بين ما هو قصصي وما هو شعري في عملية رغم ندرة الجانب الشعري فيها تكاد تكون متصلة بنائيًا ومكتنزة بالحيوية.

ولا يمكن إغفال دور النص الروائي هذا بالاهتمام بتفاصيل الإنسان اليمني بالأخص المواطن الفقير وكيف تبدو مناسباته وأفراحه وأحزانه ومخاوفه، وبشكل عام يمكن النظر للرواية مع احتساب نقاط قوتها وإنسانيتها الموضوعية باختيار أكثر المواضيع تهميشًا في حضور بعض المواضيع التي استهوت الكثير من الروائيين.

إننا إذن أمام مقدرة نسوية كبيرة وملفتة، مع العلم أنني ضد الفصل الكتابي بين الرجل والمرأة باعتبار أن المنجز الأدبي واحد. هي تجربة سردية ملفتة بواسطة الشخصيات والصراعات والبنية السردية لكل شخصية بمهارة توحي بتطور الكتابة المجتمعية-اليمنية وكذلك النسوية.

على أن هذه النقطة يمكن اعتبارها لربط الكاتب بشخوص الرواية وعلاقتهم بها وهي دراسة أو التفاتة لتأثير ذلك على حياة الشخصيات وإذ نقرأ الشخصيات بدون معزل عن كاتبها يمكن لنا قراءة دلالتها بوضوح وما خِلفة "قائد" للفتيات وأخذ تلك الفتيات مساحة سردية سوى اهتمام الكاتبة بهموم المرأة، وهي بلا شك ستكون الأقرب لها، لكنها بلا شك أيضًا رواية تبتعد عن روايات السيرة الذاتية لكثافة الأصوات السردية وتعددها واختلافها وصراعاتها والأحداث التي أتت من كلا الجانبين (الرجل/المرأة).

لم يكتف النص الروائي بمناقشة القضايا المجتمعية فقط بل تسلل إلى أغوار النفس البشرية، فتناولت الساردة: القلق، الوسواس القهري، العُقَد النفسية، بمعرفة نفسية لم تستعرض نفسها كمعرفة خالصة إلا لضرورات احتكمت لشروط النص الروائي وبنيته السيوسردية (الاجتماعية -السردية). فسعي أخو قائد للانتقام من أخيه المسكين يكشف عن رغبة سلطوية لها تبريراتها النفسية إما في مؤلفات كتب علم النفس أو الواقع اليمني الذي أعدته الروائية مساحة مناسِبة لاختبار واقعية النظريات النفسية، وهي إشارة موضوعية تدعم إنسانية النص الروائي "سميتها فاطمة" إضافة إلى طرح مواضيع أخرى تجعل النص بموضوعه إنسانيا- اجتماعيا بامتياز وحكايته كتجربة سردية مُرتّبة وفنية.